كيف نعرف إن كنا نتقدم روحانيا؟


بقلم مارشال غوفيندان


كيف نعرف إن كنا نتقدم روحانيا؟ هذا سؤال هام يسأله كل ساع إلى التحقق الروحي في وقت أو آخر. وهو ليس سؤالا سهلا، لأن الطريق الروحي طريق تدريجي، ولأن الروح لا شكل لها، ومن الصعب قياسها. وعليه، دعنا قبل تعريف التقدم، نُعرِّف ما الذي نقصده بكلمة ’’الروحاني‘‘.

في اليوغا، نتحدث عن مأزق الإنسان المتمثل في الأنانية، في التوحد مع الجسم والذهن. ونشير إلى خمسة أجسام هي: الجسم المادي (’آنا مايا كوشا‘، أو حرفيا الجسم المغتذي)، والجسم الحيوي (’برانا مايا كوشا‘، الذي يبعث الحيوية في الجسم المادي، وهو مقر الانفعالات)، والجسم الذهني (.مان أومايا كوشا‘ ويشمل اللاوعي والذاكرة والحواس الخمس وملكات الإدراك)، والجسم الفكري (’فينجنانا مايا كوشا‘ ويشمل الملكات العقلية)، والجسم الروحي (’أنانندا مايا كوشا‘ ويعني حرفيا الجسم الهانئ، أو الروح، الذي هو الوعي الخالص، أو الشاهد). وبدافع من الأنانية يفكر المرء ويتصرف معتقدا ’’أنا‘‘ الجسم، أو ’’أنا‘‘ مشاعري، أو ’’أنا‘‘ ذكرياتي أو أفكاري. فيقول مثلا ’’أنا‘‘ حزين أو ’’أنا‘‘ غاضب أو ’’أنا‘‘ مسافر، أو ’’أنا‘‘ فلان، إلخ. غير أنه قد يتوحد بعد مضي فترة من الزمن مع عكس هذه الصفات فيكون سعيدا أو ساكنا إلخ. ومن الواضح أننا لا يمكن أن نكون الشئ وعكسه، إننا لا يمكن أن نكون إلا ما يشكل طبيعتنا...دوما. غير أن سلطان الأنا شديد القوة بحيث إننا ننسى حقا وجودنا ووعينا الحقيقيين.

ولذا فإن ’’التقدم الروحي‘‘ يجب أن ينطوي على التوحد بالجسم الروحي، والتخلي التدريجي عن التوحد الزائف مع الأجسام، أو مع أبعاد الوجود، المادية والانفعالية والذهنية والفكرية. وهذه هي التنقية التدريجية من الأنانية، التي تشمل مظاهرها: الرغبة والغضب والجشع والغرور والخيلاء والدهاء. في البداية، ولفترة من الزمن، تنطوي هذه التنقية على بذل الجهد لاحترام الوصايا الأخلاقية والمعنوية والدينية، وهي مثلا عدم الإيذاء وعدم السرقة وعدم الاشتهاء. ويمكن هذا الجهد المرء تدريجيا من العثور على التوازن الداخلي، القائم على المحبة والاطمئنان والرضا. وكي نستخدم قياسا معاصرا، نقول إن الأنا تجعلنا نجلس على مقربة شديدة من البرنامج التلفزيوني لحياتنا. فنصبح مستغرقين في الدراما إلى درجة أننا ننسى طبيعتنا الحقيقية. إن تنقية أنفسنا من الاشتهاء والجشع والغضب تمكننا من الابتعاد عن شاشة التلفزيون، من الابتعاد عنها بقدر يكفي كي نبدأ نرى أننا لسنا البرنامج التلفزيوني، بكل الدراما الدائرة في حياتنا، بل نحن من يراقبها أو يشاهدها. وتساعد الممارسات الروحية، مثل التأمل، على الابتعاد إلى الخلف أكثر فأكثر، وعلى التطوير التدريجي لمنظور أعلى نبصر أنفسنا من خلاله.

وما أن تستوعب حالة تحقيق الذات، ستبدأ هذه الحالة أخيرا، كما سنرى في نهاية هذا المقال، في الهبوط إلى الأجسام الفكرية والذهنية والحيوية والمادية محولا إياها. ولا يلزم أن يكون تطورنا الروحي ’’إلى الخارج وإلى الأعلى‘‘ من هذا العالم. بل يمكن أيضا، كما سنرى، أن يتعلق بالتنمية المتكاملة لمستويات الوجود الخمسة كلها.

ولكننا نتقدم روحيا في البداية إلى الدرجة التي نتوحد فيها مع ذلك الجزء من أنفسنا الذي هو وعي خالص، أو الشاهد. ويعرف هذا بتحقيق الذات الحقيقية. ويحدث هذا عبر المراحل التالية:

  1. تنمية السكينة. والسكينة ليست غياب الأفكار، بل هي أن تكون موجودا معها. فنحن نستعيض تدريجيا، مع تقدمنا في هذه المرحلة الأولية، عن ردود الفعل المعتادة، أي مثلا عن الغضب أو القلق، بالحضور الهادئ. ويضعف بالتدريج تأثير التوهم الذهني، المعروف باسم ’مايا‘، عن طريق تنمية السكينة. وتساعدنا في هذه المرحلة كل ممارسات اليوغا، بما تشمله من أوضاع بدنية وتنفس منهجي و’مانترا‘ وتأمل وأنشطة تقرب، على الحد من الاضطراب والنشاط غير الضروري (’راجا‘) ومن الخمول والشك والكسل (’تاما‘) عن طريق تنمية الهدوء والسكينة واتزان المشاعر (’ساتفا‘). ويؤدي هذا إلى إبراز الحضور أو الوجود (’سات‘). وعن طريق ممارسة عدم التعلق، نبدأ في التخلي عن حاجتنا لأن نستغرق في التجارب.
  2. تنمية منظور الشاهد، أو ’شت‘، الوعي الخالص. ونحن نعتمد هنا منظورا جديدا لكن مع الاحتفاظ بجزء من وعينا إلى الخلف، يراقب. إن الشاهد لا يفعل أي شئ ولا يفكر في أي شئ. إنه يراقب فقط الأفعال وهي تحدث والمشاعر والأحاسيس وهي تروح وتجئ. فجزء من وعينا يرتبط بما نؤديه من أنشطة، في حين يقف جزء آخر إلى الخلف على نحو سلبي. وفي هذه المرحلة نبدأ ببذل الجهد اللازم لممارسة الشاهد الواعي، لفترات قصيرة من الزمن، أو منذ بداية نشاط ما إلى نهايته. ويكون هذا ممكنا بوجه خاص أثناء أداء الأنشطة الروتينية، التي لا تتطلب قدرا كبيرا من التركيز، أو نكون مشكلين لأدائها. ثم نعمد في وقت لاحق إلى ممارسة ذلك أثناء الأنشطة الصعبة، أو التي نواجهها لأول مرة، وذلك مثلا عند التعرض لحادث فنسقط. وبذلك يصبح هذا المنظور حاضرا أكثر فأكثر بلا مجهود، ويندمج مع أنشطة حياتنا اليومية.
  3. ’’أنا لست الفاعل‘‘. ومع تطور وعينا الشاهد، لا نعود نشعر بأننا فاعلون لأي شئ، لأننا نكف عن التوحد بتقلبات الجسم والذهن. بل نشعر أننا مجرد مراقب وأن جسمنا وذهننا مجرد أداة. فجزء من وعينا يرتبط بفعل الأشياء، كالمشي والحديث والعمل والأكل وما إلى ذلك، لكن جزءا آخر من وعينا يقف الآن إلى الخلف. إنه لا يفعل شيئا. بل يظل في حالة سلبية من الانتباه الذي لا يُصدر أحكاما. ويشعر المرء كما لو كان أداة، وأن العناية الإلهية هي ما تفعل كل شئ. ويشعر المرء أن هناك في باطنه حقيقة ’’لافاعلة‘‘. ومع ذلك فكل شئ يُؤدَّى. ويستمتع المرء بمراقبة تعاقب الأحداث، وتزامنها، وآثارها. ويقدر المرء بشكل أكبر فأكبر كيف تُحدِث الأفعال والكلمات والأفكار آثارها، التي يطلق عليها اسم ’الكارما‘، وكيف يمكن تطبيق قانون ’الكارما‘ هذا لتحقيق السعادة، لا المعاناة، للآخرين. ومع هذا الإحساس الجديد الموسع بالذات الحقيقية، يشعر المرء أن احتياجات الآخرين هي احتياجاته. ويعبر المرء عن محبته للآخرين بمساعدتهم على العثور على السعادة.
  4. ’’أنا هو من هو‘‘. في حالة التأمل العميقة نصبح واعين بما هو واع. إن الوعي ذاته يصبح الموضوع. ويقول المرء ’’أنا في كل شئ‘‘ و’’كل شئ فيَّ‘‘. وفي وقت لاحق، يبدأ تحقيق الذات هذا يسري بالتدريج في أنشطة حياتنا أثناء اليقظة. ويتعمق في هذه المرحلة تحقيقنا لله. وقد حاول القديسون والمتصوفون من كل التقاليد التراثية الروحية وصف هذه التجربة، لكن الكلمات تفشل عامة في ذلك. فالواقع أننا كلما حاولنا وصف هذه التجربة زاد ابتعادنا عنها، لأن وصفها، أو حتى محاولة التفكير فيها، يختزلها إلى مجموعة من الأفكار. ولما كان الوعي يتجاوز كل الأسماء والأشكال، ويسري في كل شئ، ويعد لا نهائيا وخالدا، فكل شئ عداه تشحب دلالته. ولذا يعد الصمت أفضل وسيط تعليمي لمن يعرفون هذه الحقيقة معرفة عيانية. وقد أصاب ’سوامي راما تريثا‘، وهو أول يوغي ينقل اليوغا إلى أمريكا، في نهاية القرن التاسع عشر، عندما قال: ’’في تعريف الله تحديد لله. لأن حقيقة الله لا يمكن الحديث عنها ولا حتى الهمس بها‘‘.

إن المراحل السابقة ليست خطا مستقيما. فنحن نمر بها مرارا كمسار متعرج، بسبب الطبيعة غير المستقرة لذهننا، وبحكم عاداتنا المألوفة (’سامساكارا‘)، و’الكارما‘ و’المايا‘ وتأثيرات ’الغونا‘. لكن هذا هو بوجه عام اتجاه حركتنا، إذا كنا نتقدم روحيا. فتوحدنا مع الجسم والمشاعر والتقلبات الذهنية يضعف ويحل محله توحد مع تلك الحقيقة التي تتجاوز الأسماء والصور، مع الذات الحقيقية، مع الوعي الخالص، الذي هو آخر الأمر الحقيقة الإلهية.

التصورات التدريجية ومنظورات الله

إن تصورنا لله، أو الكائن الأعلى، سيتطور تدريجيا أيضا عبر مراحل توازي المراحل السابقة للتطور الروحي، من شئ ’’هو في الخارج هناك‘‘، إلى شئ ’’هو في باطني‘‘. ومن المفيد تحليل كيف تتطور فكرتنا عن الله، ويتطور ما نتصور أنه حقيقتنا، مع تقدمنا على المسار الروحي. فمن خلال القيام بذلك، نتجنب المراوحة في مرحلة أدنى. وقد صنف الباحثون في الإلهيات عدة مفاهيم دينية تدريجية عن الله. وكل دين أو جماعة ثقافية تفترض أن مفهومها عن الله هو المفهوم الصحيح. ومن الواضح أن تصور المرء لله يكون محدودا بتعليمه وفهمه للطبيعة وخبرته الشخصية ومخيلته ورغباته ومخاوفه. فالتجربة البشرية تنعكس في مفهوم المرء عن الله. وفيما يلي توضيح لذلك.

المستوى الأول: الله هو حليفي. أنا الجسم المادي

يأتي الاعتقاد بوجود كائن أسمى عندما يشعر المرء بالخوف من الموت، وهذا هو أكبر صور الخوف. وقد سعى الإنسان البدائي إلى التغلب على الخوف عن طريق نسبة الأحداث الطبيعية إلى مصادر فوق طبيعية. وعملا على التخفيف من هذه المخاوف، قدم الإنسان البدائي القرابين إلى الأرواح الغاضبة المسؤولة عن الرعد والفيضان والجفاف والحرب والمرض والموت، على أمل أن تهدئ هذه القرابين من غضبها. فالكائنات فوق الطبيعية، خيرة كانت أو شريرة، يمكن أن تكون، في الأديان المبكرة القائمة على تعدد الآلهة، إما من الأعداء وإما من الحلفاء. وسعى المؤمنون بهذه الأديان إلى التماس الحماية من الأرباب والربات لصد الشر والقوى الشريرة وما ينجم عن ذلك من معاناة. فالقوى فوق الطبيعية يمكن أن تكون نزقة بل وانتقامية. والحياة كانت قصيرة وفظة، وكان البقاء هو المسألة الأساسية، وعليه كان التماس الحماية هو المطلوب قبل أي شئ آخر. وفي هذه المرحلة، يتوحد الشخص أساسا مع الجسم المادي. فإن كنت الجسم وحده، فإن ما يهدد بقاءه يصبح هو الشر. والله هو ما يجلب السلامة والمأكل والمأوى. ومن ثم اتضرع إلى الله الذي يمدني، بوصفه حليفا لي، بما أحتاجه للبقاء. فجهل الشخص بطبيعته الحقيقية، وبالتالي نزوعه الأناني، مغروس بعمق في الجسم المادي.

المستوى الثاني: الله كلي القدرة، أنا الذهن والشخصية

ما أن يصبح المجتمع مستقرا، لا يعود البقاء هو الشغل الشاغل، فيسعى البشر إلى سن قوانين تحكم سلوكهم الاجتماعي. ويعزو البشر سلطة قوانينهم إلى إله ’’قدير‘‘. والله هنا هو مصدر كل القوة والسلطة. ومن يحظون بالسلطة، يفعلون ذلك لأن الله قد منحها إياهم. فشيوخ القبائل يصبحون ملوكا، والقضاة يصبحون كهنة. لكن السلطة تصبح مُسْكِرة، وكلما حازها الشخص اشتدت رغبته في الازدياد منها. فالشخص، وقد تحرر الآن من المسائل المرتبطة بالبقاء، يتوحد مع الذهن والرغبات الحيوية. فالأنا، أي عادة التوحد مع الجسم والذهن، تشمل الآن طائفة غير محدودة تقريبا من الإمكانيات مع اتساع نطاق الرغبات. فيتنافس الشخص مع الآخرين. ويكون أنانيا. ويسعى بالقوة إلى الإنجاز وإلى السيطرة على الآخرين. غير أنه يفعل ذلك وهو يحاول أن يحترم القوانين التي حددها الله خشية أن يلحقه العقاب إذا خالفها. وتوضع عقائد ومؤسسات دينية تسعى إلى الرد على الفضول الفكري المتزايد وإلى السيطرة على الطبيعة البشرية وإخضاعها لمن يحكمون. ويتطور العلم ويتحدى الدين. وتتصادم الأديان وتتجابه الثقافات. وتقوم التحالفات بين المؤسسات السياسية والدينية. بل ويدعو الناس الله كي يهزم أعداءهم أو يسعوا إلى تحويلهم إلى اعتناق دينهم. إنها ’’نحن‘‘ في مواجهة ’’هم‘‘.
المستوى الثالث: الله هو السكينة. ’’استكينوا واعلموا أني أنا الله‘‘

يصل كثير من الناس إلى هذه المرحلة عندما يكتشفون، لسبب أو لآخر، كائنا باطنيا، يكمن خلف تقلبات الجسم والحواس والذهن. وقد يحدث هذا نتيجة تجربة روحية تلقائية، يتسامى فيها الشخص؛ وقد يكون نتيجة ممارسة التأمل؛ وقد يحدث نتيجة تجربة مادية مكثفة تنطوي على الألم أو التركيز الشديد بحيث ينفصل المرء عن حالته الذهنية المعتادة. وعليه، يبدأ الشخص في إدراك أن تصوراته السابقة عن الله كانت مجرد تصورات، أي أن الإنسان قام حتى الآن بخلق الله ليخدم احتياجاته الأنوية، بكل مخاوفه ورغباته. ويدرك أن رأيه في العالم ’’هناك‘‘ يشوهه ما يحبه هو وما يكره. ولكن في المستوى الثالث، يجد الشخص السلام ومن ثم فإن الله هو السلام. ويدرك حقيقة ما جاء في المزامير ’’استكينوا واعلموا أني أنا الله‘‘. ويدرك الشخص أنه بتطوير المنظور الباطني لذاته الحقيقية، أي الشاهد الواعي، يستطيع أن يتغلب على اضطرابات العالم الخارجي. ففي سكينة الذهن، يكتشف الشخص الوعي الخالص، فهو مثل النور في الغرفة، الذي لم يكن يلتفت إليه أحد حتى الآن، لأن الشخص كان مشغولا بما كان يعكسه الضوء، أي بمحتويات الغرفة. في البداية يوجد توتر بين حياة الشخص الداخلية وحياته الخارجية، مما قد يسفر عن رفض الحياة الخارجية. ومع تقدم المرء في هذه المرحلة، يسعى إلى تنمية الهدوء والوعي التأملي في كل لحظات الحياة. لا يرفض المرء العالم. فكما يقول المسيح يكون المرء في العالم ولكن ليس من العالم. ويستعيض المرء عن التفكير في الله، أي عن المفاهيم، بمنظور شاهد جديد، لا يصبح المرء معه مستغرقا في الأفكار، بل يعيش في سلام بذهن هادئ. والواقع أن الإنسان يسمو فوق تقلبات الذهن، ويصل إلى ’’نور الوعي‘‘. وتعجز الكلمات عن التعبير عن حالته ولا يستطيع الشعر سوى الإشارة. ’’إنه السلام الذي يتجاوز كل فهم‘‘ الذي تحدث عنه المتصوفة في كل التقاليد التراثية الروحية. وعند هذا المستوى، يغوص الدين وكل نظام فكري آخر في رحاب الروحانية.
المستوى الرابع: الله حكيم. أنا أسمع. أنا أعرف.

بعد تجاوز المسائل الأولية للخوف والرغبة، والعثور على السلام الداخلي، يدرك الشخص أن الله يحبه ويسامحه، وأنه حكيم. فالله معرفةٌ كلُه، وعليه فإنني بالاستماع إلى الله أعرف بدوري. وأنا أنصت إليه، بأن أكون هادئا ومتلقيا وبأن أسمح لحدسي بأن يتكلم. فأبدأ بالتوحد مع الذي يعرف، لا لأنني تعلمت شيئا في المدرسة، بل لأنني أعرف ذلك وكفى. وأفهم أكثر فأكثر تلقائيا متى ركزت على ما أريد معرفته. وتصبح الأمور واضحة أمامي. وأبصر الحقيقة الكامنة خلف كل شئ، وتأتي الحكمة إليَّ. وأستطيع أن أميز بين الدائم والزائل، بين الذي يجلب الفرحة والذي يجلب المعاناة، وأدرك أنني حقا الروح الخالدة والوعي الخالص. ولا يعود الشخص منشغلا بمراعاة القواعد وتجنب ما هو مؤلم في العالم الخارجي الحافل بالاضطراب، كما كان الحال في المراحل السابقة. ويتحول الشخص صوب إله متسام محب، بثقة كاملة وبإنماء ذلك التحقق في قلبه بصورة دائمة، فيشعر بأنه محبوب ومطهر وموجه من قبل الله بصورة حدسية. وفي نهاية هذه المرحلة، يشعر الشخص أنه برئ تماما، وأنه تخلى عن جميع مفاهيم الصواب والخطأ والذنب والفخر. ويتوحد مع الآخرين، ويحبهم ويساعدهم على العثور على السعادة.

المستوى الخامس: الله يشارك في خلقي. أنا أخلق.

في هذا المستوى من التطور الروحي، يدرك الشخص أن لديه القوة والمسؤولية عن خلق حياته. ويتجاوز المرحلة العادية، مرحلة من يحلم ’’بعينين مفتوحتين‘‘ إلى مرحلة الشخص صاحب الرؤية. ويظل مخلصا لأحلامه، الأحلام التي يدرك أنها تتوافق مع طريق الحكمة وتحقيق الذات الذي اختار أن يمضي فيه. ولا يعود الله بعيدا، ويشعر أنه يشاركه في الخلق. ويغدق الله عليه نعمه ويلهمه. وما أن يعتزم الشخص فعل شئ ما حتى يدعمه الكون لتحقيق ما يريد. قد يكون عليه أن يعمل جاهدا في سبيل تحقيقه، لكنه يشعر أنه ليس الفاعل، بل مجرد أداة. ويكون الشخص صبورا فيما يخص النتيجة، واثقا بأن الكون سيتكفل بتحقيقها. ويظل مقيما في اللحظة الراهنة، وتتحقق الأشياء بقيام الشخص بفعل ما هو مطلوب وحسب. ويتواءم الشخص أكثر فأكثر مع إرادة الله مع تنقية نفسه من احتياجات الأنا وتفضيلاتها. ويشعر الشخص أن البركات تغمره مهما كانت النتيجة.

المستوى السادس: الله معجزة. أنا وعي ذاتي متألق.

مع إدراك الشخص أنه يشارك في الخلق، يبدأ في رؤية العالم كمعجزة للخلق تتحقق على ملعب حياتنا. وتكثر المعجزات. فالله هو ’’فرحة جديدة دائمة‘‘ حسبما يقول ’يوغانندا‘، وتتحول كل لحظة وكل حدث إلى مناسبة للدهشة. ويري الشخص أن الله وراء كل سبب، غير متأثر بالخلق، نور الوعي. ويدرك أنه في أعماق ذاته هو نفس تلك الحقيقة: وعي ذاتي متألق. إن النور هو كناية عن الوعي، لكنه أيضا ما يشعر به المتصوف في أعماق روحه. إن الله متجاوز للزمان والمكان ولا يحده أي شئ. وعلى هذا المستوى، تُحقق نعمة الله كثيرا من الأحداث العجيبة. ويجد الشخص ما هو مقدس حتى فيما هو دنيوي. ويرى بعين المتصوف وجود الله في كل مكان. والنعمة، على عكس ’الكارما‘، هي شئ غير مستحق، ولا تعتمد على ما إذا كانت أفعالنا طيبة أو سيئة. إنها استجابة الله لدعاء الاتحاد بتلك الحقيقة التي تتعالى على كل اسم وصورة، وتعبير عن التخلي عن ثنائية الحب والنفور، والامتلاك والخسارة، والنجاح والفشل، والشهرة والعار. ويدرك الشخص أن لعبة الأنا، بكل رغباتها، ما هي إلا فخ هائل، ويسلم الشخص أمره لله، لا ذهنيا فحسب، بل بشكل واع أيضا. ويسعى الشخص للتحرر من لعبة الأنا. ويصبح مستغرقا فيما يتجاوز التقلب الذهني، أي في مصدره الأساسي، نور الوعي.
المستوى السابع: الله وجود ووعي وهناء مطلق. ’’أنا موجود‘‘

يصل الشخص، الذي نجا من ثنائية الذهن، إلى حالة الوجود والوعي والهناء المطلق. وهذه الحالة غير مشروطة، من حيث إنها لا تعتمد على أي شئ. إنها موجودة ببساطة، ويدرك الشخص ’’أن تلك الحقيقة هي حقيقته هو‘‘. ويصبح ذلك أمرا عاديا ليس فيه أي شئ خاص. لأن إحساس الشخص بأنه شئ خاص يعني أنه قائم بذاته، وعلى هذا المستوى يتجاوز الشخص الثنائيات المتناقضة، ويدرك وحدته مع كل شئ. وعلى هذا المستوى، الذي يصفه الباحثون بالواحدية، لا يكون هناك إلا واحد فحسب. في الربوبية، هناك الروح والله، وهما منفصلان. أما من منظور الواحدية، فإن هناك واحدا فحسب. وهذا الواحد لانهائي لا يتغير وخالد ويتعالى عن الوصف، وهو أصل كل شئ. ويصل المرء إلى ذلك، عندما يصبح الذهن، في أعمق حالات التأمل، ساكنا، ومع ذلك فإن الوعي يتسع ويتسع. عندما سأل موسى الله ’’من أنت؟‘‘، أجابه الله ’’أنا هو من هو‘‘. إنه أصل كل شئ، هو الذكاء الأسمى ذاته. وعندئذ يصبح الوجود هنا والآن هو الطريقة الوحيدة للوجود، ويصبح اللافعل هو وسيلتك ومقصدك. ويجلب الوجود الواعي، بصرف النظر عن الدراما الدائرة، الوعي، والوعي يجلب الهناء. ولا تعود بمقدورك أن تجيب عن سؤال ’’من أنت؟‘‘إلا ’’بأنا موجود‘‘. وأي رد آخر يعتبر هوية خاطئة، يصبح لعبة الأنا. وتنسحب الميول والتفضيلات المعتادة إلى الخلفية، ويتصدر كل شئ شعور ’’أنا موجود‘‘. فلم يعد هناك ’’آخر‘‘. ويأتي هذا التحقق، المعروف باسم ’الصمادي‘، في اليوغا، أثناء تجارب التأمل العميقة، وقد يظل مراوغا لسنوات كثيرة لأن الشخص يكون مُشَكَّلا عادةً كي يتوحد مع الذكريات ومع الجسم والذهن. لكن مع العودة المتكررة إلى هذه الحالة، تخبو آثار الجهل والأنانية والوهم و’الكارما‘ في نور التحقق الذاتي المتألق.

التحول

يجد القديسون في كل التقاليد الروحية الذين وصلوا إلى هذه الحالة أنها تملأهم بالرضا الكامل إلى درجة أن الرغبة في البقاء في هذا العالم تخبو تدريجيا مع كل الرغبات الأخرى. ويظل الجسم مع كل احتياجاته شاغلا يتطلب قدرا من الاهتمام، ومن ثم فإن القديسين المتقدمين الذين وصلوا إلى هذه المرحلة السابعة يغادرون هذا العالم دون شكوى، سواء في اتجاه الجنة أو سعيا إلى التحرر من دورة الميلاد والموت.

ولكن في الصين والتبت والهند، يوجد تقليد قديم يرى أن التطور الروحي لا ينتهي في البعد الروحي للوجود، على النحو الموصوف في المرحلة السابعة أعلاه. فلما كانوا يدركون أن الله حاضر هنا، فإن تسليم أمرهم لله يتجاوز مجرد تسليم أرواحهم لله، على البعد الروحي. بل هم يسلمون فكرهم، أي رغبتهم في المعرفة، فيصبحون حكماء قادرين على المعرفة العميقة لأي موضوع يتجه إليه ذهنهم. ولا تأتي هذه المعرفة بالطريقة العادية، من خلال الدراسة والبحث التجريبي، لكن بأن يصبحوا شيئا واحدا مع موضوع الاهتمام. وهذه المعرفة الحدسية، التي تعبر عن أعمق الحقائق بطريقة تتحدى القدرة على التعبير في أحيان كثيرة، هي نتاج ذكاء أسمى في حالات التركيز العميقة والاستغراق المعرفي، المعروفة باسم ’الصمادي‘.
ومع تسليم أمرهم بقدر أكبر، على مستوى الذهن، يصبحون ’’سِيدا‘‘، أي أناسا يستطيعون إبانة القوى الكامنة، مثل رؤية المستقبل، والتنبؤ، والسمع عن بعد. ثم مع تسليم أمرهم على مستوى الجسم الحيوي، يصبحون قادرين غلى إظهار قوى أعظم، مثل الارتفاع عن الأرض، وتجسيد الأشياء، والتلاشي في الفضاء، والتحكم في الطبيعة، والسيطرة على الأحداث. ومع تسليم أمرهم على المستوى المادي، تتخلى حتى الخلايا ذاتها عن برامجها المحدودة المتمثلة في التكاثر، وتصبح متصلة بشكل حميم بإرادة الحكيم ووعيه. ويصبح الجسم شديد المنعة ومستعصيا على الموت ولا يخضع لقوانين الطبيعة. وهذا التسليم التدريجي لله يعبر لا عن تطلع إلى التحرر من هذا العالم، عالم المعاناة، بل عن التطلع إلى تحضير هذا الكائن ليتجلى الله من خلاله على جميع مستويات الوجود، في الأجسام الخمسة، الروحي والفكري والذهني والحيوي والمادي. ويعتبر هؤلاء الِسيدا، الذين لم يعودوا يرون انقساما بين المادة والروح، بل يرون الروح فقط، ويرون كل شئ كمظهر للحقيقة الإلهية، ذروة التطور البشري. وهم يرون أن تحقيق الله في جسم مريض ليس تعبيرا عن الكمال. فقد نفذوا وصية المسيح لتلاميذه حين قال ’’فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل‘‘.


حقوق المؤلف محفوظة لـ: م. غوفيندان ساتشيدانندا. خريف عام 2007


 

© 1995 - 2024 · Babaji's Kriya Yoga and Publications · All Rights Reserved.  "Babaji's Kriya Yoga" is a registered service mark.   ॐ Mahavatar Babaji ॐ